عن النهضة أكتب، لكن للنهضة مداخل، ومدخلي هنا عن المرأة.
وجعت قلبي صديقتي التي خيَّرها زوجها بين أولادها ونشاطها المتنامي مؤخرًا في المجال العام بحكم الوضع الذي نعيشه، رغم سعيها الحثيث للموازنة كزوجة في مقتبل العمر لديها أطفال بين واجبات الخاص وواجبات العام، فعدت للتفكير في القضية التي تجبرني مشاهداتي على النظر فيها بين الحين والآخر.
قال أحد النشطاء وهو يشكو لي تعليقًا على الموقف: إنها مشكلة المرأة، فكان ردّي أنها: في الحقيقة مشكلة الرجل، وأزمة المجتمع.
وتذكرت ما قرأت للدكتورة عائشة عبد الرحمن يرحمها الله يومًا حين قالت: إن الذكورة لا تقترن بالضرورة بالرجولة، فليس كل ذكر رجلاً.
المروءة والمرأة
ومن ناحية أخرى قد تتحلى امرأة من النساء بشيمة اعتاد المجتمع نسبتها للرجال، فتكون كما يقولون.. بألف رجل. وقرأت ذات مرة رأيًا يذهب إلى أن أخلاق "المروءة" منسوبة للفظ المرأة؛ لأنها تحتوي على خصال العطاء والنجدة والعون والكرم بدون توقع منفعة أو عائد أو شكر، وهي كلها صفات تقترب من عطاءات الأمومة.
لكن الحقيقة هي أن الفصل التام الزؤام بين صفات الرجال وصفات النساء فصل مصطنع وخادع، فالحياء الذي يقترن بالمرأة هو صفة أهل الإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم كان أشدّ حياء من العذراء، فمن أين جئنا بتصوراتنا عن الدين.. والدنيا؟.
هناك أمور تتعلق بالبيولوجيا، لكن هناك أمورًا أخرى تتعلق بالأيديولوجيا.. أي التصورات الذهنية التي تفرزها سياقات سياسية واجتماعية واقتصادية تتحدد وفقًا لها المساحات المكانية ومجالات الفعل والمشاركة، فتتشكل تقاليد وأعراف ترسم لنا ثقافيًّا الأدوار المتوقعة من الرجال والنساء، ولكن الأيديولوجيات تتفاوت، فتضيق الفوارق كلما اتسعت رؤية الإنسانية الجامعة، ويقلّ التمايز (بدون أن يسقط بالكلية لحكمة الله من خلق الذكر والأنثى)، ومساحة المشترك هذه وصفها مفهوم "الولاية" القرآني الذي يبدو أننا نسيناه، وبدلاً من أن تدخل فيه المرأة لتكون -مع الرجل- خليفة الله في أرضه تم قصر وقسر علاقتها معه تحت مفهوم القوامة؛ وهو قرآنيًّا مفهوم أسري لا مفهوم اجتماع وسياسة، ولا معنى للتنازع بشأنه إذا كان السلطان قد انفرد بـ"الخلافة" وسلبها من المجتمع برجاله ونسائه، وصارت الولاية في الجدل السياسي هي الولاية العامة أي المنصب (من منطلق التفكير الهرمي للدولة)، في حين فقد المجال العام والجدل الثقافي معنى الولاية الذي هو مرادف المواطنة ومستقره الجماعة وليس الإدارة والبيروقراطية، وتم تهميش المرأة كإنسان/ شقيقة في ساحة "الولاية/ المواطنة"؛ للتحول في الواقع وفي عين كثير من القطاعات إلى "وِلية" بكسر الواو كما في التعبير الشعبي، وهو وصف يختزل المرأة في البيولوجيا كما سلف ويتناسى عمدًا الأنثروبولوجيا، أي السقف والشرط الاجتماعي، كما يتناسى عقلية الأيديولوجيا التي تضع للأسف قضية المرأة على منصة الصراع السياسي، وتدير مواقفها على جثة المرأة في مزايدات ومساومات (خاصة في مرحلة الانتخابات)، ويسقط هذا على رأس النساء بين الانتخابات على مدار خمس سنوات، وهكذا التصق تصور المرأة بـ"الأنوثة" وضاع مستوى "المروءة"، وهيمنت ثقافة ضعف المرأة العقلي والبدني وحاجتها للحماية (والمرأة تحتاج في الواقع للمودة والرعاية.. وبعض الرحمة).
لم يستوصوا خيرًا
لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء". من التواصي والوصية، لكن الغالبية فهمتها على وجه الوصاية، فنشأ حزب "والله لنمنعهن!"، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله".. وحين تم أخذ البيعة بالسيف لم يدرك البعض أن هناك صلة بين الاثنين؛ الملك العضود وهذا الحزب السابق الذكر؛ لأن شروط النهضة في الخبرة النبوية لا تنفصل، ومزالق الزلل والوقوع في الفتن بعده لا تنفك أيضًا عن بعضها البعض.
دفعني للعودة للتفكير في هذه القضية أيضًا عدة مشاهد في العالم العربي تجمعت فأثقلت قلبي، منها تنازع أعضاء البرلمان الكويتي على تقويم أداء وزيرة التعليم الكويتية فتطرق الجدل السياسي لكونها امرأة، وعاد الحديث عن حق المرأة في تولي مناصب عامة ليوضع على الطاولة من جديد، وكأنه قدر أن نخطو خطوة للأمام وخطوتين للخلف.
أما في مصر فإن وجود 4 سيدات في البرلمان بعد 50 سنة من دخول المرأة له مسألة محيرة ومحزنة، وما زال هناك على الصعيد الآخر التباس في موقف الإخوان من المرأة، وما دام الـ88 كرسيًّا برلمانيًّا لكتلة الإخوان ليس بينها كرسي واحد تشغله امرأة فسأظل أكرر أن تلك الفجوة بين الكلام والفعل تثير التساؤل والقلق، ليس من الإخوان بل عليهم، والأخطر: على المشروع النهضوي الإسلامي ذاته.
أرى مجددًا أن هناك حاجة لنقلة نوعية اليوم في قضايا المرأة (وقضايا النهضة إجمالاً)، وأن المأزق التاريخي هو أن الحركة التجديدية التي انطلقت في القرن التاسع عشر تحولت إلى حركة سياسية في القرن العشرين، ثم انصرفت للتركيز على السياسة بفعل الاضطهاد والمصادرة، وفي حين أن الحركات التجديدية في أي مجتمع وأي زمان تسعى لتغيير الثقافة بتجديد صلتها بالأسس والقواعد الأصلية حتى لو أغضبت البعض؛ لأنها تؤمن أنها تراهن على المستقبل والنهضة، وأن الناس ستفهم منطقها مع الأيام منطق الاجتهاد، وسيزداد الأنصار في تيار عام، نجد في المقابل أن أي حركة سياسية ليست على استعداد لأن تخسر هذا البعض؛ لأن الخسارة تعني فقدان أصوات انتخابية، وحركة التاريخ يمكنها أن تنتظر حتى تنتهي فترة الانتخابات، والمرأة (وكل ملفات التغيير) يمكنها أن تنتظر؛ لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. الانتخابية.
أرسل لي أخ كريم رسالة من المدينة المنورة على المحمول يقول لي دعوت لك، فكان ردي: بلِّغ رسول الله مني السلام، وقل له: لم يستوصوا بنا خيرًا.. وآن لهم أن يفعلوا