حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -
الشيخ عبد المجيد بن محمود الريمي
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد:
فإن الله قد منّ علينا أن بعث فينا رسولاً منا يتلو علينا آياته، ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنا من قبله لفي ضلال مبين، لقد منّ الله علينا إذ بعث فينا رسولاً من أنفُسنا، نعلم نسبه وصدقه، ونعلم طهارته وأمانته.
ولقد منَّ الله علينا إذ بعث فينا رسولاً من أنفَسنا ومن أشرفنا، وقد هدانا الله - تبارك وتعالى - به من الضلالة، وبصرنا به من العمى، وأرشدنا به من الغي، فكم من جاهل قد أحياه بهذا الوحي والعلم، وكم من تائه ضال قد هداه - صلى الله عليه وسلم - بالعلم النافع، والعمل الصالح.
ولقد طهرنا الله به من الشرك، وبصرنا به من الضلال والجهل، وأحيانا بعد أن كنا أمواتاً لا نعرف الله، ولا نعرف الواجبات الشرعية، ولا الأخلاق الفاضلة، ولا الحقوق التي لنا أو التي علينا، ولا نعرف ما نقوله في ربنا، ولا ما نعتقده فيه، ولا ما يجب له - سبحانه وتعالى -، ولا نعرف أن لنا داراً سوف ننتقل من هذه الدار إليها، وأننا سنلقى الله - سبحانه وتعالى - فيها فيحاسبنا على كل صغيرة وكبيرة، ولم نكن نعلم بالجنة والنار وبالحساب والعقاب.
فهدانا - سبحانه وتعالى - به إلى أحسن الأخلاق والأعمال، وعرفنا أحسن النظم والأحكام، والشرائع والأخلاق، وفتح الله علينا به الأرض، ففتح الله علينا البلدان، وملَّكنا رقاب الكفار، وأباح لنا دمائهم وأموالهم؛ لأنهم كفروا بالله، وجحدوا حقه - سبحانه -، وعاندوا شرعه، وخالفوا رسله، واختارنا الله - سبحانه وتعالى - بواسطته لنكون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله الإيمان الصحيح المستمد من الوحي المعصوم ومن السنة المعصومة، فقد والله عَظُمَ حقه علينا، وصار حقه علينا أعظم من حق آبائنا وأمهاتنا، وحبه واجب علينا أعظم من حبنا لأنفسنا وآبائنا وأمهاتنا وأولادنا وأموالنا وأوطاننا قال - تبارك وتعالى -: (( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ))[(24) سورة التوبة].
وإن هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - قد عظم الله - تبارك وتعالى - مقامه، وبيَّن مكانته، وجعل له شرف عظيم، فهو في الآخرة صاحب المقام المحمود في الحشر والنشر؛ حيث يكون لواء الحمد بيده، وآدم وغيره من الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة، وهو صاحب الحوض المورود، وصاحب الشفاعة العظمى - صلى الله عليه وسلم -، وهو وحده صاحب الوسيلة؛ المكان الرفيع في الجنة التي لا ينالها إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قد جاء في أثر وإن كان فيه ضعف ولم يأخذ به الأئمة المحققون إلا أنهم قد ذكروا وتناقلوا أنه - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - يجلسه الله معه على العرش، وإنما هذا لا يجوز اعتقاده لعدم صحة الدليل فيه، لكن هذا مما قد نقله أهل الحديث، وأهل الأثر؛ أن هذا من خصائصه - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -.
أما في الدنيا فهو سيد ولد آدم ولا فخر، وصاحب الآية العظمى التي لم يحصل أحد من الأنبياء مثلها ألا وهي القرآن، وإعجاز القرآن، وبلاغته وفصاحته، وتشريعاته وأحكامه، وأخلاقه وقصصه، وهديه الذي لو اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثله في تشريعاته وبلاغته، وفصاحته وإعجازه؛ لما قدروا على الإتيان بسورة من مثله أو بآية من مثله.
هذا الرسول العظيم الذي قرن الله - تبارك وتعالى - توحيده بتوحيده، فلا يثبت توحيد لله إلا بتوحيد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإتباع والطاعة، والتصديق والإيمان به، فشهادة ألا إله إلا الله مقرونة بشهادة أن محمداً رسول الله، وإفراد الله - تبارك وتعالى - بالتوحيد مقرون بإفراده - بأبي هو وأمي - بالطاعة والإتباع.
وقد رفع الله له ذكره، وشرح له صدره قال - تعالى-: (( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ... وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ))[1- 4 سورة الشرح] وهذا الأسلوب في اللغة العربية معناه الإثبات؛ لأن: ألم نشرح لك صدرك معناه شرحنا لك صدرك كقول الشاعر في البيت الذي قال أهل الأدب والمعاني أنه أمدح بيت قالته العرب:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
قال الإمام الشافعي ومجاهد وغيره من العلماء: أن معنى (( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ )) أنه لا يذكر الله إلا ذكر معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الأذان؛ فيقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله، وكما في التشهد يقول المصلي: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وكذلك الكافر عندما يدخل في الإسلام يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ ولهذا فإن هذا النبي العظيم، خاتم الأنبياء والرسل هو بالنسبة لنا أعظم من آباءنا من حيث أن آبائنا إنما ربوا أجسادنا بالغذاء والشراب، لكن هذا الدليل العظيم ربا عقولنا بواسطته وبفضله - ولله الحمد والمنة -، وهذا بعض فضله - صلى الله عليه وسلم -، فقد جنبنا الشرك حين علمنا التوحيد، وحذرنا من الشرك وبينه لنا، فصرنا مسلمين موحدين، ولم نصبح خرافيين أو مشعوذين أو كهنة أو دجالين؛ كما هو حال من أعرض عن توحيد الله - تبارك وتعالى -، والتجأ إلى غير الله، واستغاث بغير الله، وعبد غير الله كالطبيعة أو شياطين الإنس أو الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء أو غير ذلك، فإن الله - سبحانه وتعالى - هدانا به - صلى الله عليه وسلم - إلى التوحيد، فعرفنا الله - تبارك وتعالى - بما يستحقه من الأسماء والصفات، وما يستحقه من العبادة، وكل هذا بفضل إرسال هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فحرمت النار على كل موحد، وحرم البقاء والخلود في النار على أهل لا إله إلا الله، ومن دخلها منهم ممن أصاب بعض الذنوب والكبائر من القتل أو الزنا، أو السرقة أو شرب الخمر، أو الظلم أو البغي أو ما أشبه ذلك؛ فإنه بفضل الله ثم بفضل هذا النبي الكريم وما أتانا به من التوحيد والإيمان لا يخلد فيها كما يخلد أهل الكفر والإلحاد، وهذا بفضل الله.
وأما شفاعته - صلى الله عليه وسلم - فإنه يشفع أحياناً لأناس من أمته خفت موازينهم، واستوجبوا دخول النار، فيشفع لهم - عليه الصلاة والسلام - أن لا يدخلوا النار، ومن دخلها فإنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع له بعد مدة أن يخرج منها، ويشفع لأناس بأن ترتفع منازلهم في الجنة، ويشفع - صلى الله عليه وسلم - في أناس تساوت حسناتهم مع سيئاتهم فلم تترجح حسناتهم حتى يدخلوا الجنة، ولم تترجح سيئاتهم حتى يدخلوا النار، فيكونون في موطن بين الجنة والنار؛ فيشفع لهم - عليه الصلاة والسلام - بدخول الجنة، كما يشفع للجميع من مسلمين وكفار وسائر أهل الموقف من الأولين والآخرين شفاعة عظيمة لا يستطيع أحد أن يتصدى لها ألا وهي أنه هو وحده الذي يأتي الله - تبارك وتعالى - لفصل الخطاب بشفاعته والحساب بين الناس، حيث يأتي الناس إلى آدم، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى، فيعتذر الجميع، ثم يأتون إلى محمد - عليه الصلاة والسلام – فيقول: أنا لها، أنا لها؛ فيأتي ويسجد حتى يقول الله - تبارك وتعالى - له: " يا محمد أرفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع"، فهذا هو المقام المحمود الواتبعه أن يؤدي بعض حقوقه؛ لأن حقه لا يُستطاع له - عليه الصلاة والسلام - كله، ولكن يجب أن يؤدي الفرد ما استطاع من حقوقه - صلى الله عليه وسلم -.
ذي يحمده الأولون والآخرون، ففضائله وخصائصه لا تعد ولا تحصى، ولهذا يجب لهذا النبي العظيم الكريم على كل من آمن به