موضوع: مسلّة تيماء تثير صراعاً فرنسياً ألمانياً منذ 135 عاماً الثلاثاء مايو 11, 2010 5:22 pm
«مسلّة تيماء» تثير صراعاً فرنسياً ألمانياً منذ 135 عاماً
نقش إسلامي عثر عليه في منطقة الجوف
رحالة ألماني يكشف جوانب سياسية واجتماعية واقتصادية لشمال الجزيرة العربية قبل قرن ونصف .. قبل 135 عاما من اليوم حمل المستشرق الالماني يوليوس أويتنج عدته وعتاده متوجها الى الجزيرة العربية قاطعا آلاف الاميال في رحلة لم تخل من المصاعب والاخطار بهدف الرغبة في جمع النقوش ودراسة الكتابات العربية القديمة في شمال الجزيرة العربية واستنساخها ونقلها معه الى المراكز العلمية في بلده. وخلال تنقله في انحاء متفرقة من شمال الجزيرة العربية حرص أويتنج على نقل واستنساخ كل نقش وقعت عيناه عليه، كما قدم وصفا دقيقا لكل موقع أثري مر به في رحلته التي استغرقت ثمانية اشهر متتالية تمكن خلالها من زيارة مناطق كاف، والجوف، وحائل، وتيماء، وتبوك، والحجر «مدائن صالح»، والعلا، والوجه، كما قدم صورة اتسمت بدقة الملاحظة وعمق الرؤية عن الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة في المناطق التي زارها، إضافة الى معلومات نادرة عن تاريخ وجغرافية تلك المناطق واحوالها السياسية. وسجل الرحالة كل ما شاهده في يوميات اتسمت بالاعتماد على أسلوب الوصف العلمي السليم الذي يقوم على أساس المشاهدة الواقعية ويبتعد عن أسلوب الخيال القصصي وزاد على ذلك في نقل مشاهدته عن طريق الرسم الذي اجاده بدقة. وقدمت دارة الملك عبد العزيز اول ترجمة عربية ليوميات هذا الرحالة ضمن إصداراتها لمؤلفات الرحالة عن السعودية والجزيرة العربية ومنها هذه الرحلة التي بدأها المستشرق الألماني في العاشر من سبتمبر (ايلول) عام 1883م بوصوله الى كاف، وانتهت في الرابع عشر من ابريل (نيسان) من عام 1884، وترجم وعلق على الأصل المحرر بالالمانية الى العربية الدكتور سعيد بن فايز السعيد الذي شدد في مقدمة الترجمة على ان من يقرأ وقائع رحلة المستشرق الالماني، يوليوس أويتنج، التي قام بها الى شمال الجزيرة العربية عام 1883 ـ 1884 لن يجد صعوبة في التعرف على ان الهدف الحقيقي من وراء قيامه بهذه الرحلة هو هدف علمي بحت، فقد ادت رغبته في جمع النقوش ودراسة الكتابات العربية القديمة الى قيامه بهذه الرحلة الشاقة الى جزيرة العرب، كما حرص المؤلف على تقديم وصف دقيق للمدن والقرى التي زارها والطرق والمسالك التي سار عبرها، ومناهل الآبار وموارد المياه، والجبال والصحراء والآثار والمباني، والقلاع والحصون وأحوال الطقس، كما حرص المؤلف ايضا على تقديم وصف مفصل للعادات والتقاليد وأحوال المعيشة للمجتمعات التي زارها، وهو لا يكتفي في كثير من الاحيان بمجرد الوصف ونقل مشاهداته اليومية، بل انه يسخر موهبته الفذة في فن الرسم، لينقل الينا صورة واقعية لمعلم او شخص او خلافه. واعتبر المترجم أن الكتاب يتضمن معلومات نادرة وقيمة قد لا نجدها في أي مصدر آخر يفيد المؤرخ والجغرافي وعالم الاجتماع وعالم الاقتصاد. وتضمن الكتاب اشارات الى الرحالة الفرنسي تشارلز هوبر الذي قرر أويتنج الرحيل الى الجزيرة العربية برفقته، وقد اغتيل هوبر في يوم 29 يوليو (تموز) عام 1884 بالقرب من جدة بعد ان اطلق عليه جناة بضع رصاصات اودت بحياته واحتجزوا خادمه محمود مدة يومين وتمكن من الافلات منهم. وادى اغتيال هوبر الى تحرك الدبلوماسية الفرنسية حيث اصدرت الاوامر الى قنصلها في جدة، منسوردي لوستات، بأن يحافظ على مقتنيات هوبر التي من بينها حجر تيماء الشهير «مسلة تيماء» الذي اكتشفه هوبر خلال رحلته الاولى الى جزيرة العرب في عام 1879، ولكن الرحالة الالماني أويتنج طالب باستعادة الحجر بناء على اتفاق مسبق بينه وبين هوبر، ما جعل القنصل الفرنسي بجدة يقوم بارسال مقتنيات هوبر كافة الى فرنسا على وجه السرعة. كاف.. قرية الملح * بدأ الرحالة يومياته التي كتبها عن رحلته الشهيرة إلى شمال الجزيرة العربية بالحديث عن كاف، التي تقع في الطرف الشمالي الغربي من السعودية، واستمرت حاضرة للمنطقة حتى قبل 72 عاما حين وافق الملك عبد العزيز على انتقال الدوائر الحكومية منها الى النبك «القريات» نظرا لعدم إمكان التوسع العمراني فيها، ووصف الرحالة الالماني قرية كاف ومنازلها وعدد سكانها ومأمور البلد ابان زيارته لها وهو عبد الله الخميس حيث قال: «تقع قرية كاف في منطقة سبخة تسمى النبك والعقيلة، وهي تمتد مسيرة يوم نحو الغرب والجنوب الغربي. وتحدها من الجهات الاخرى سلاسل جبلية ذات اسماء متعددة. ويقال ان وادي الراجل الذي يبدأ من جنوب شرقي جبل الدروز ويطلق عليه بدءا من قصر الازرق اسم وادي السرحان يصل الى هذه المنطقة. ولكن تجدر الاشار الى ان من هم برفقتي من البدو يقولون ان وادي السرحان يمتد على مسيرة ثماني ساعات الى الجنوب الشرقي من قرية اثره، التي تبعد 14 كيلومتراً إلى الشرق من كاف. ويبلغ عدد بيوت قرية كاف حوالي ثلاثين بيتا. وهي مقسمة على جزءين لا يرتبطان ببعضهما سوى عن طريق بساتين النخيل. أما تعداد سكانها من الرجال فيبلغ على الاجمال تسعين شخصا. وبالنسبة الى الجزء الشرقي الاقل اهمية فهو ذو مدخل عريض بدون بوابة. كما ان بساتينه وآباره اقل عددا. اما الجزء الغربي الذي يسكنه الشيخ عبد الله الخميس فإن مجموعة منازله تتسم بالضخامة وتشتمل على عدة اقنية. وعلى الرغم من ان الشيخ عبد الله يحصل على قدر لا بأس به من النقود عن طريق استخراج الملح وبيعه ومن ثم يمكن اعتباره من الاثرياء فإنه يتسم بالبخل الشديد ويدعي الفقر دائما. ولكنه في الحقيقة مضطر الى دفع الكثير من الضرائب ليس الى امير حائل فقط. ولكن ايضا للدروز وغيرهم من القبائل البدوية. فلو اراد اليوم ان يوقف ما يدفعه الى هؤلاء الكبار والحلفاء فإن ذلك يعني انتهاء سطوته في القريب العاجل، كما ان تجارته في الملح ستلحق بها خسائر جمة. أما بالنسبة الى بساتين القرية فهي عبارة عن ملكية خاصة ولهذا السبب فإن كلا منها محاط بأسوار خاصة بها، وحيث ان كل بستان كبير يحتوي على بئر او اكثر مزود ببرك وقنوات فإنه يمكن ري اشجار النخيل كافة بدون صعوبة على الاقل بالتبادل فيما بينها، بل ان هناك ايضا قنوات اخرى لتصريف المياه الفائضة يمكن ان يستفيد منها صغار الملاك. وعندما يكون الوقت مناسبا فإنه يمكن ايضا زراعة الاراضي الخارجية بالقمح والخضراوات، ونظرا لان كاف مقارنة بقاطنيها من البدو تحتوي على 450 الى 500 نخلة فيمكن اعتبارها قرية غنية. لقد قام الشيخ بتقديم واجب الضيافة لافراد القافلة في شكل مجموعات. وكان بعضهم يجلس في المكان الفسيح الذي يلي البوابة مباشرة. وبعضهم الآخر يجلس في الغرفة الامامية الملحقة بمنزل الشيخ. اما نحن ـ باعتبارنا من كبار الضيوف ـ فقد تناولنا القهوة والتمر والخيار في الديوان او ما يسمى بالقهوة. وهو عبارة عن مجلس طوله اثنتا عشرة خطوة وعرضه اربع خطوات يدخل اليه الضوء من فتحات في اعلى الجدار ومن الباب. وقد كان الاثاث مكونا من مدفأة «وجار» ومنفاخ وهاون «نجر» وبعض الاوتاد المعلقة على الجدران وحصائر من القش على الارض. شغلت صناديقنا وغيرها من متاع السفر معظم أركان الحجرة». وواصل المؤلف كتابة مذكراته الطويلة لرحلته من كاف الى الجوف عبر وادي السرحان مع حمود المجراد الذي بعثه خصيصاً لكي يحضر الرحالة من دمشق امير شمر محمد بن رشيد الذي تولى الامارة في حائل عام 1289هـ وتوفي عام 1315هـ، وهو ابن عبدالله بن رشيد الذي عين من قبل الامام فيصل بن تركي أميرا على حائل وقال الرحالة : «في يوم الاربعاء 3/10/1883م تم إحضار الجمال بعد طلوع الشمس مباشرة ، وبدأ إعداد الأمتعة للرحيل عبر وادي السرحان إلى الجوف. لم يكن هوبر (رحالة فرنسي رافقه في الرحلة) أخبرني قبل ذلك أن الرحيل سيكون اليوم، لذلك أصابتني الدهشة قليلا ليس لأن رحيلي عن كاف كان أمرا شاقا، بل على الرغم من أنني تركت له كل ما يتعلق بتنظيم الرحلة كنت أتوقع منه أن يخبرني عن اتفاقه على الرحيل مع حمود المجراد. وبمناسبة الوداع أعطيت النساء بعض الهدايا البسيطة، وسألت الشيخ عبد الله عن أي رغبة يريد مني أن ألبيها له، فطلب اقتراض بعض المال على أن يرده لي أثناء رحلة العودة، فأعطيته 5 مجيديات (18 ماركا تقريبا)، ولمّحت له أن يحتفظ بها حتى نلتقي في الجنة. تجمعت القرية كلها خارج البوابة كي يتمنوا لنا رحلة سعيدة، ثم أخذت القافلة في التحرك نحو إثره في الساعة الثامنة والنصف، وهي تتكون من 24 رجلا راكبين 22 جملا، بالإضافة إلى زنجية معها طفلان، وعلى الرغم من أنني وهوبر كنا أهم شخصيتين في القافلة، إلا أن حمود المجراد كان هو القائد الحقيقي لها، والذي لا يمكن لأحد أن يعارض توجيهاته. وفي الحقيقة فقد تمكنت في ما بعد أن أعرف الرجل حق المعرفة، وأدرك أنه باستثناء أمير حائل يُعد أفضل مَن قابلتهم من البدو، على الرغم من أنني كنت أستنكر أحيانا بعض خصاله البدوية وطبائعه الشخصية. كان عمره على ما يبدو 47 عاما، طويل ونحيف، ذو عينين ثاقبتين وأنف مدبب. ولم تكن هنالك حدود لرغبته في التملك، فهو يريد الحصول على كل ما يراه ولا يستنكف أن يحاول امتلاكه حتى لو لم يستطع. وإذا لم تكن كل جملة يقولها تحتوي على كذبة فإنه على الأقل يفضل إخفاء الحقيقة من قبيل الحرص ويضلل بإجاباته من يسأله، لذلك فإنه قام بعدد من المهام الصعبة والدبلوماسية «فقد تم إرساله مثلا إلى إسماعيل باشا نائب ملك مصر السابق»، وأدى مهمته بشكل رضي عنه أميره». الجوف قلاع وقصور ونقوش * وواصل الحديث عبر الرحلة إلى الجوف وحتى وصوله إليها بقوله: «بدأ طريقنا ينحدر بشدة في اتجاه واحة الجوف المنخفضة، حيث أخذنا طريقنا عبر ممر يقع بين صخور رملية إلى منطقة واسعة متموجة تكثر بها الصخور والرمال التي تتخللها أحجار فضية اللون على شكل فقاعات ضخمة. في منطقة تحيط بها سلاسل جبال يتراوح ارتفاعها ما بين 500 ـ 400 م تقع في العمق واحة النخيل مع بعض البيوت التي تشرف عليها قلعة مارد والقصر، وإلى الخلف من الناحية الشرقية تظهر صحراء النفود الخالية من المياه وذات الرمال المتطايرة ممتدة جنوبا إلى جبل شمل. عملا بعادة البدو المتبعة قمنا قبل دخولنا المدينة بغسل أنفسنا ولبسنا أفضل الملابس، فالكل منا يرفل في ثياب فاخرة رغبة في إظهار دخولنا إلى المدينة بالمظهر اللائق. تضم منطقة الجوف بمفهومها الواسع العديد من الأماكن والقرى المتباعدة عن بعضها البعض، والتي تمتد على مسيرة يوم واحد باتجاه الشمال الشرقي وجميعها تشترك في الشرب من حوض مائي واحد، وهذه القرى هي سكاكا (8000 نسمة)، قارة (1000 نسمة)، والطوير (300 نسمة)، أما الأماكن الأخرى التي أشار إليها الرحالة الآخرون مثل سارة، الجوف، حاسيا، جوا، ومويسن، فيبدو أن سكانها قد هجروها. أما المكان الرئيس هنا فهو الجوف، ويسكنه 12 ألف نسمة، وهذا المنخفض الذي يبلغ طوله مسيرة ساعتين تقريبا وعرضه مسيرة ثلاثة أرباع الساعة، لا تشغل المنازل والحدائق التي تصل إلى حافة الهضبة الجنوبية سوى ثلثه. وقد كانت الجوف قبل أن تسيطر عليها شمر يتكون من اثني عشر حيا، تسمى أسواقا، كل منها يشكل حصنا قائما بذاته، ولما كان سكان هذه الأحياء لا يجمعهم أي إحساس بالمشاركة، فقد كانت تسود بينهم الخلافات مما يجعلهم يحاصرون بعضهم بعضا إلى أن امتدت إليهم يد عُبيد «عبيد بن رشيد» الحديدية وسياسة طلال «طلال بن رشيد» اللا مبالية لتغير من ذلك الوضع، لكنه على الرغم من أن الأمن والنظام يسودان حاليا، إلا أننا لا يمكن أن نتحدث عن وجود تجارة أو صناعة، كما لا يوجد هناك أي أماكن للبيع أو أسواق، ليس في إمكان المرء تقديم وصف دقيق لعامة المساكن في البلدة، فالأزقة الضيقة تمتد بين جدران الحدائق، والبيوت العالية تشكل عائقا لمجال الرؤية داخلها. أما المساكن الأحسن حالا فيعلو كل واحد منها برج يصل ارتفاعه ما بين 20 ـ 40 قدما ومزين بالشرف والفتحات. وقد كان ذلك البرج في السابق يخدم أغراضا دفاعية، أما اليوم فهو للزينة ودليل على الثراء. أما ما يخص المباني القديمة فلم يبق سوى القليل منها، فإلى الغرب من الوادي أسفل رجم البرج يمتد سور حجري يسمى «عمارة الأكيدر»، ومن الأشياء المهمة التي لا تزال باقية هناك قلعة مارد المشيدة من الحجار المهذبة على شكل ثلاثة طوابق يصل بينها سلم حلزوني، ويحيط به سد مائي وأسوار دائرية، وقد أدى قصفه بواسطة عبيد في عام 1855 إلى فقدان نصف ارتفاعه، وأصبح خرابا لا يسكنه اليوم سوى أسرة بائسة، وقد ذكر يوسف المالكي أشخصية فلسطينية قدم إلى الجوف بتكليف من الرحالة الألماني أورش ستزن ليجمع له المعلومات عن المنطقة) عام 1808، أن ارتفاعه يفوق مرتين وربما ثلاث مرات منارة المسجد الأقصى، أما اليوم فيصل ارتفاعه إلى 50 قدما. وفي أحد أقسام المدينة المميزة والمسمى خزاما تم في العصر الحديث بناء قصر جديد يشعر القادم إليه بالفزع والخوف حينما يرى أسواره وأفنيته وأبراجه ذات الكوات البارزة، وفي الجانب الجنوبي الشرقي من القصر يوجد برج المدخل الذي بني على شكل مربع يضيق كلما ارتفع إلى أعلى وتتوسطه الكوات البارزة «كاتوله» ذات الأغراض الدفاعية. في أسفل هذا البرج يوجد باب خشبي كبير في وسطه فتحة صغيرة مغطاة من الداخل بصفيحة معدنية تتيح للحارس الواقف في الداخل رؤية ذلك القادم إلى القصر ومعرفته، وهذا الباب الكبير لا يفتح للزوار العاديين، بل يدخلون إلى القصر عبر خوخة صغيرة في الباب ترتفع عن مستوى الأرض بحوالي القدم والنصف ولا يتعدى طولها وعرضها القدمين. وعندما وصلنا يوم الثلاثاء 9/10/1883، تم بالطبع فتح البوابة كلها وأنزلت أمتعتنا وسط تدفق جموع الفضوليين، وأودعت في غرفة مغلقة في حين وضعت الأبسطة والحقائب اليدوية في ممر أحد المنازل، ثم دخلنا إلى قاعة المدخل المظلمة. وبعد أن بدأت أعيننا التي لم تر الظلال طوال سبعة أيام مضت تتعود على تلك الظلمة، رأيت هناك مدفعا قديما نصب على عربة ذات عجلات خشبية، وفي هذه الأثناء بدأت رهبة اللقاء تتضح على ملامح مرافقينا من البدو، رغم أنهم كانوا يحاولون بقواهم الخفية تجاهل تأثيرها فيهم، من هنا توجهنا بصحبة مجموعة من جنود الشيوخ إلى حيث القهوة «قاعة الاستقبال»، فدخلنا والسيوف بأيدينا إلى غرفة مظلمة قائلين: السلام عليكم، فرد علينا صوت من داخل تلك الظلمة وعليكم السلام، بعد بضع خطوات داخل تلك الغرفة قابلنا عامل الشيوخ في الجوف، وهو عبد زنجي يدعى جوهر، فحيانا بترحاب شديد وقبل خدودنا وهو يردد لكل واحد منا «كيف أنت»، وقد كنا نرد عليه بعبارة «طيب الحمد لله» في محاولة منا لكبح حماسه في الترحيب. جلسنا هناك على أبسطة فارسية جميلة متكئين على أشدة الجمال واضعين السيوف أمامنا على الأرض، كما قمنا بتحية كل الحاضرين بإيماءة من الرأس وعبارة «أسعد الله صباحكم»، وبينما البخور والقهوة الحلوة تقدم لنا، أخذ الحاضرون يسألوننا بكل تفصيل عن رحلتنا، ثم قدمت بعد ذلك القهوة العادية مع تمر حباته كبيرة وفي غاية الحلاوة يرافقه السمن والخبز. وفي أثناء ذلك طلب جوهر من أحد الجنود أن يحضر له غليونه ويشعله، كما قمنا نحن بإشعال النارجيلة الخاصة بنا، وقد أكد لنا جوهر مرارا سعادته البالغة بتلك الزيارة التي تعد تشريفا له، ولربما كانت تلك السيوف المصنوعة في زولنجن «مدينة ألمانية شمال بون وتشتهر بصناعة السكاكين»، والتي قدمناها له مع ثلاثة جنيهات تركية (حوالي 50 ماركا)، سببا في ظهور ملامح الرضا على محياه، لكن يجب القول: إن شعوره ذلك كان حقيقيا وليس مصطنعا، فقد كان عزيز النفس ولطيفا، كل همه منصب على تلبية طلباتنا وجعل إقامتنا مريحة، بل إنني لم أجد فيه شيئا قط من ذلك الوصف الذي ذكرته السيدة آن بلنت، والذي مؤداه «إن بشرة جوهر السوداء تنطوي حقا على قلب أسود، وأن سلطاته اللا محدودة جعلت منه طاغية يخشى جانبه»، فلو كان جوهر كما ذكرت السيدة بلنت لما نال رضا سيده في حائل الذي يسعى إلى تحقيق العدل. علاوة على ذلك فمنذ أن تولى جوهر إدارة الأمور في الجوف أصبح يقوم بنفسه على تقدير محصول التمور، ما جعل الضرائب التي تدفع من هناك إلى قصر حائل تزداد إلى الضعف، والمعروف أن تولي أحد العبيد تلك المسؤولية غير المحدودة في هذه البلاد أمر لا يثير الدهشة، خاصة أنه بسبب تبعيته لسيده يعتبرا مثالا للولاء وإنكار الذات، وفي ما بعد سيأتي الحديث على ذكر عبد آخر هو عنيبر الذي أوكل إليه الأمير عدة مرات شؤون العاصمة خلال تغيبه عنها، لكن ثمة فرقا بين الاثنين، فبينما يتسم جوهر باللطف في تعامله، يستغل عنيبر مركزه لإبراز السلطة وغروره كما فعل ذات مرة مع داوتي». حائل وابن رشيد * وواصل الرحالة حديثه عن رحلته من الجوف إلى حائل عبر صحراء النفود الغنية برمالها الذهبية وفي أجواء باردة وماطرة حين وصل إلى جبة التي تبعد مسافة 90 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من مدينة حائل بعد رحلة سير متواصلة استمرت 54 ساعة وخلال أربعة أيام وساعتين وقال عند وصوله أسوار جبة: «بعد أن تم إنزال حمولة الجمال كان لزاما عليها أن تستريح في هدوء لمدة نصف ساعة قبل أن تبدأ في إرواء عطشها، بعد ذلك سيقت إلى حفرة مملوءة بالماء فشربت تلك الكميات الهائلة من الماء في سرعة مدهشة، ثم أحضر لها العلف الوفير، وفي المساء قبل بدء المسيرة شربت مرة ثانية. تقع جبة التي أطلق عليها بطليموس اسما آراميا هو أينا ومعناه النبع، في منخفض يصل عمقه 150 ـ 300 متر تقريبا، عن حواف النفود المحيطة. ويمتد آخذا شكلا بيضاويا بمسافة 8 ـ 9 أكيال تقريبا، وعدد سكانها حوالي 500 شخص، ومنازلها حوالي التسعين منزلا، وقد لاحظت هنا شيئا لم أسمع مثله في جزيرة العرب كلها، فالمرء حين يريد استخدام البئر التي يتراوح عمقها ما بين 12 ـ 15م، لا بد له من دفع مبلغ من المال إلى الشيخ، أما نحن ـ على اعتبارنا من ضيوف الأمير ـ فلم نضطر إلى دفع ذلك المبلغ. وعلى الجانب الغربي من المنخفض وعلى بعد كيلين من الأمتار من أسوار القرية، كانت تقع الحافة الحادة لجبل أم سلمان على ارتفاع يصل إلى حوالي 400 م، وهي عبارة عن صخرة طويلة من الحجر الرملي الملون ينتهي في أعلاها بقمة مدببة. أما أجزاؤها السفلى فقد كتبت عليها الكثير من النقوش القديمة والرسوم الصخرية التي أشار إليها الرحالة الفنلندي فالن من قبل. أخذ طريقنا يتجه مستقيما نحو الجنوب تاركين جبل أجأ على الجهة اليمنى، وقد كانت صفحاته الجرانيتية تلمع كالفضة بفعل سقوط المطر عليها. أما على الجهة اليسرى ناحية المرتفعات الرملية الحمر فقد بدأت تظهر صفوف أشجار الآثل تتوسطها أسوار الآبار المتداعية والمنازل المهجورة، ثم بدأت تظهر لنا ظلال جبل فتق القاتم والواقع بين جبلي أجأ وسلمى، وقبل نصف ساعة من المدينة وبينما كان المطر ينهمر بغزارة ترجلنا عن الجمال وقمنا بتغيير ملابسنا، وبعد ذلك مباشرة توقف المطر، وبعد مسيرة يسيرة ظهرت أمامنا مدينة حائل ـ مقر إقامة ابن رشيد ـ تحت ظلال شمس الصباح الرائعة. انطلقنا مسرعين نحو المدينة مارين بخيام البدو السود، سالكين طريقنا بمحاذاة أسوار الطين الممتدة، جاعلين المدينة القديمة الواقفة خلف أشجار النخيل على يسارنا، وأمامنا كان يبدو الحي الجديد بقصره الشامخ ذي الأبراج العالية، وعندما وصلنا إلى الأسوار جفلت ركائبنا غلا أننا أكرهناها على الدخول عبر الأزقة الضيقة إلى أن وصلنا إلى ميدان المدينة الواسع، حيث حططنا الرحال ونحن محاطون بأعداد كثيرة من الناس، ثم سرنا عبر العديد من الأفنية إلى حيث مقر الاستقبال في القصر. كان من الطبيعي أن نكون مفعمين بالترقب لرؤية حاكم الجزء الشمالي من شبه الجزيرة العربية الذي كانت مصائرنا معلقة في يده خلال الفترة القادمة. وبينما نقلت أمتعتنا إلى المنزل المخصص لنا ذهبنا إلى القصر حيث دخلنا عبر فناء به عدد من المدافع القديمة إلى أن وصلنا إلى قاعة الاستقبال، وهناك قدم لنا الشاي والقهوة، كما قام ذلك الشيخ الوقور مفرج ذو الشوارب البيضاء الطويلة ومسؤول التشريفات في القصر بإيقاف جموع الناس الذي كانوا داخلين وخارجين لرؤيتنا والسلام علينا، بقينا في تلك القاعة مدة نصف ساعة، حيث كان حمود المجراد قائد حملتنا يقدم للأمير تقريرا مفصلا عما رآه وسمعه، بعد ذلك دخل علينا مفرج ليخبرنا بأن الأمير يرغب في استقبالنا، فسرنا عبر ممر طويل ومظلم مارين بغرفة الجنود ثم دخلنا عبر ممر مسقوف تقبع في جهته اليمنى مجموعة من الكراسي الأوروبية المتهالكة وأشياء أخرى عديمة الفائدة جلبت من بلاد الغرب إلى أن وصلنا إلى القهوة «قاعة استقبالات الأمير»، وبعد أن خلعنا أحذيتنا أمام المدخل دخلنا دون انحناء أو أي طقوس أخرى قائلين بكل بساطة «السلام عليكم»، فسلم علينا بيده، وبينما كنا نقبله يمنة ويسرة كان يردد كيف أنت، كيف أنت، وقد تكرر الشيء نفسه مع ابن عمه حمود العبيد. بعد ذلك طلب منا الأمير الجلوس قائلاً تفضلوا، فجلست أنا وهوبر الى يساره والى جانبنا جلس أيضا قائد جيشه صالح بن رخيص وعدد آخر من الأمراء، بينما جلس إلى يمينه حمود العبيد وبعض أفراد العائلة من كبار السن. أما من الجهة المقابلة الى يسار المدخل مباشرة فقد جلس عدد من الوزراء ـ إن صح التعبير. ورجال القصر والجنود أيضاً، ولأن الاسئلة والأجوبة كانت موجهة أساسا الى هوبر بصفته صديقا وضيفا قديما فقد أتيحت لي الفرصة لكي أتفقد المكان في هدوء. كانت قاعة الاستقبال «المجلس» واسعة ومطلية بلون أبيض، طولها 16 متراً وعرضها عشرة أمتار وارتفاعها أربعة أمتار، أما السقف فهو مسقوف بأخشاب شجر الأثل، وتحمله ثلاثة أعمدة من الطوب النيء «اللبن»، ومعلقة عليها أربعة قناديل زيتية، أما الأرض فكانت مفروشة بحصير من سعف النخيل، بينما بسطت الزلالي الفارسية الى جانب جدران القاعة وفوقها مجموعة من الوسائد للاتكاء عليها. وأمام مجلس الأمير يوجد الوجار الذي يصل طوله المترين وتوقد فيه النار بصفة مستمرة، حيث يتم اعداد القهوة، كذلك كانت هناك قناديل للاضاءة فالقاعة لا ينفذ اليها سوى القليل من الضوء، فبخلاف الأبواب لا توجد سوى فتحات قليلة ضيقة في الجدران المواجهة. يبلغ الأمير محمد بن عبد الله الرشيد من العمر الثامنة والأربعين تقريباً، وهو مثل كل أمراء عائلته ذو بشرة بيضاء نسبيا، وذقن سوداء تماما «ربما تكون مصبوغة»، وتعبيرات وجه تنم عن عزيمة واصرار، وعيناه في حركة دائمة، أما مظهره الخارجي فيتسم بالبساطة، حيث كان يرتدي ثوبا أبيض وفوقه مشلح أسود مطرز، وعلى رأسه شماغ وعقال مطرز بلون الذهب، وتحتها تتدلى ضفيرتان سوداوان جدلتا بشكل رائع، ويلبس في قدميه صندلا جلديا بدون جوارب. أما الشيء الوحيد الذي يزهو به فهو سلاحه، السيف المعلق جانبه على الجدار الذي ربما تبلغ قيمة الذهب الموشّى به نصله ومقبضه حوالي ألفين الى ثلاثة آلاف مارك. وقد كانت عقلانيته تفوق ليس فقط أتباعه ولكن أيضا أقاربه الى حد بعيد، وعلى الرغم من ايمانه الا انه يبدي تسامحا نحو من يخالفونه في العقيدة ممن التقى بهم كثيرا في بغداد، وهو يتحدث العربية والفارسية والتركية في درجة واحدة من الاتقان، كما انه على علم دقيق بقدامى الشعراء العرب، بالاضافة الى معرفته بجميع أشعار الفكاهة البدوية، قديمها وحديثها». وأسهب المؤلف في وصف رحلته الى بقعاء وعقدة، وجلدية ورسم صوراً لسد عقدة وقمة الفرع وهو أعلى قمة في جبل أجا كما رسم النقوش والرسوم الصخرية على جبال الجلدية، كما رسم بلدة بقعاء التي تبعد 95 كيلومترا الى الشمال الشرقي من مدينة حائل، كما سجل رحلته من حائل الى تيماء ووصف الأخيرة بأنها واحة تقع على حوض مائي منخفض يتجه من الجنوب الى الشمال، كما عدد الاطلال الاثرية القديمة فيها، وقدر عدد سكانها خلال رحلته اليها في الخامس عشر من شهر فبراير (شباط) عام 1884 بنحو ألف نسمة، ولفت الى ان المدينة شهدت حتى وقت قريب صراعاً بين سكانها بين أحيائها الثلاثة، لكن تلك الصراعات أمكن القضاء عليها بعد ان التزم سكانها في تلك الفترة بدفع الضرائب لابن رشيد عن طريق عامله عبد العزيز العنقري الذي حمل الرحالة اليه رسالة من الامير يأمره فيها بأن يمدهم بالمواد الغذائية وغير ذلك مما قد يكونوا في حاجة اليه. قصر الدائر * وزار المؤلف المدينة القديمة في تيماء كما ذهب الى منزل يسمى طليحان وهناك وجد أغلى غنيمة حصل عليها من رحلته تلك وحول ذلك يقول الرحال الألماني: ذهبنا الى منزل فهد الطلق الذي ضيفنا بالتمر والخبز واللبن، وقد كان من بين المدعوين صانع أسلحة ماهر يدعى زيدان، وقد ضممته الي لمعرفته التامة بالأماكن وموافقته على تلبية طلباتي ليرافقني خلال زياراتي في المدينة، وحينما فرغنا من الأكل ذهبنا معا الى غرب المدينة، حيث التل الذي يبلغ ارتفاعه حوالي المترين عن مستوى سطح البحر، وتقع تحته حسب معلوماته تيماء القديمة، وفي الحقيقة بعد قيامي بعملية بحث سطحية في الأرض الرملية وجدت بعض قطع من الزجاج، وشظايا من البرونز مغطاة بطبقة خضراء سميكة، بالاضافة الى قطع من أرض اسمنتية وعدد من أحجار العقيق، كما رأيت قناة تتجه نحو الشمال مغطاة بالجير، ويبدو انها كانت مخصصة لنقل الماء الى المستنقع الملحي «السبخة»، والى الجنوب وصلنا الى قصر الدائر، وهو بناء كبير مربع الشكل فيه أبراج على الزوايا وبقايا بشر مردومة، ومن هناك ذهبنا الى منزل يقع على مسيرة خمس دقائق الى الجنوب يسمى طليحان، وجدت فيه أغلى غنيمة حصلت عليها من رحلتي في الجزيرة العربية، فالى اليمين على القائم الأيمن من الباب الداخلي الثاني كان هناك حجر مقلوب نحتت عليه أشكال آدمية، تمثل معبوداً أو ملكاً، وكاهناً، وهذا الحجر هو ما يعرف اليوم في أوساط الدارسين باسم «حجر تيما»، وحينما رأيت نقشاً مكتوباً عليه لم استطع اخفاء مشاعر الدهشة لدي إلا بصعوبة بالغة، وفي هدوء مفعم بالسعادة قمت بنسخه على الورق، ثم اعطيت صاحب المنزل بكل سرور بعض النقود. وبعد أن قلت لزيدان بأن يحضره الي في صباح الغد الباكر، ذهبت مسرعاً وأنا متعب ومضطرب الى البيت لكي أحدث هوبر عن الاكتشاف الجديد. وأهمية النقش المكتوب عليه، تكمن في انه يعود بالتأكيد الى القرن السادس قبل الميلاد، أما الحجر نفسه فسيقتلع من مكانه يحضر الى منزلنا في يوم الغد، وفي المساء تمت دعوتنا لدى ثويني، وبعد ذلك شربنا القهوة عند عبد العزيز بن رمان، وقد كنت أفضل مائة مرة لو أنني بقيت في المنزل لدراسة الورقة التي نسخت عليها النقش. ويشار إلى أن حجر تيماء المعروف بين أوساط الدارسين باسم «مسلة تيماء» عثر عليه في قصر طليحان وقد كتبت المسلة، المحفوظة الآن في متحف اللوفر بباريس تحت رقم «Ao 1505» والتي يعود تاريخها إلى القرن السادس قبل الميلاد، بالقلم الآرامي. ويتكون النص المكتوب عليها من ثلاثة وعشرين سطراً تتحدث عن أمرين رئيسين : الأول هو تنصيب أحد الكهنة في معبد الإله الوثني صلم في تيماء. والثاني ينص على التزام المعابد الأخرى بتقديم محصول إحدى وعشرين نخلة ضريبة لمعبد الإله صلم في تيماء. وقد أدى تفكيري في ذلك الحجر الى اصابتي بالقلق وعدم القدرة على النوم الى القدر الذي جعلني أنهض عند الفجر لأنظر من جديد على ضوء الشموع الى الورقة التي نسخت عليها النقش، وعند طلوع الفجر بدأت باخراج القمل من ملابسي، ثم ذهبت مع صانع السلاح زيدان في جولة خلال المدينة زرنا فيها أولا منزل الخطيب محمد العتيق الذي كان على أحد جدران مسكنه الداخلية حجر عليه نقش كتب بالخط الآرامي. ثم سرنا عبر مقبرة تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من المدينة الحالية. وترتفع فيها بعض الأعمدة الدائرية المتداعية «فهل هي بقايا أعمدة المعابر؟» وعلى مقربة من هذه المقبرة شاهدة بعض الخبث الناتج عن فرن لصهر المعادن، وبعض الأواني الفخارية المزججة، وفضلات ضبعة، وجثة حيوان ميت، حينما وصلنا منزل زيدان منحني هدية كانت عبارة عن بلطة حجرية سوداء يستخدمونها في قياس نسب الذهب والفضة، وقد رأيت عنده جرة قديمة من الفخار، لم يكن عليها أي ملامح فنية. وجدت حين عودتي من الجولة سبعة رجال يقفون في فناء منزلنا، وقد أحضروا الحجر «مسلة تيماء» من قصر طليحان، فقمت باعطاء كل حمال منهم ربع مجيدي، وأعطيت المالك 1.5 مجيدي (حوالي 5 ماركات)، وبعد وضع الحجر وذهاب الرجال أصبح في وسعي فحص الحجر عن قرب، وحينما رآه هوبر تذكر أنه شاهده بالفعل خلال زيارته الأولى (عام 1880) ولكنه لم يظن أنه ذو أهمية. نظراً لكوني قد اتفقت مع هوبر حينما كنا في ستراسبورغ (مدينة فرنسية على الحدود مع ألمانيا)، قبل بدأ رحلتنا المشتركة الى الجزيرة العربية أن يكون من نصيبي كل ما نعثر عليه من آثار قديمة يمكن حملها. بحيث تختار دولتي ـ التي كانت في تلك الفترة تفتقد الى تملك مثل هذه الآثار خاصة من النقوش المكتوبة على الحجر ـ ما تشاء، بينما يكون له كل ما نحصل عليه من غنائم أخرى، لذلك فقد كان من المنطقي حسب الاتفاق ان تعود ملكية حجر طليحان «مسلة تيماء» اليّ. لا شك ان عملية نقل هذا الحجر الذي لن يقل وزنه عن 150 كجم ستكون بالغة الصعوبة كما ستحتاج الى احتياطات خاصة لتوزيع الثقل وتدعيمه فوق شداد الجمل، وخلال هذا اليوم تم احضار عدد آخر من الأحجار عليها نقوش كتبت بالخط الآرامي الى مسكننا، ولعل من الأفضل بالنسبة لنا نقل مجموعة من هذه الأحجار المنقوشة عبر منطقة آمنة الى حائل، بدلاً من نقلها معنا خلال رحلتنا في منطقة الحجاز. دعيت خلال فترة بعد الظهر لزيارة مجموعة من المنازل التي قيل لي: ان فيها مجموعة أخرى من النقوش المكتوبة على الأحجار، وحيث انني لم أجد هناك أي اثر لذلك فقد تحملت النتيجة السلبية بارادة قوية، بل انني حاولت اخفاء ملامح الاحباط والاستياء على محياي أو الدخول في منازعات مع أولئك الناس. فليس لهم علم بمعاني حروف تلك النقوش، وفي مثل هذه الأحوال يجب على المرء تحمل التعب والأخطار حتى يتمكن من رؤية ما لديهم». نظافة وقهوة وبخور * وفي صباح يوم 19 فبراير 1884 دعانا محمود العلاوي الى الطعام، وهو أحد رفاق هوبر في رحلته الأولى الى جزيرة العرب. أما بيته فقد كان نظيفا ومفروشا بالزلالي «جمع زلية»، وأطفاله الواقفون للخدمة حولنا اعتادوا على النظافة والدقة. فعلى سبيل المثال قام أحد الاطفال بتغطية النجر «الهاون» بعد طحن حبوب القهوة فيه بقطعة من القماش، كما تم غسل أقداح القهوة أمام أعيننا رغم انها كانت نظيفة، ثم جففت ووضعت فوق صحن نحاسي دائري الشكل، وفي الوسط وضعت مجمرة «مبخرة» ألقي فيها البخور، حيث يتم تبخير فنجان القهوة «لم تجر العادة على تبخير فناجين القهوة وإنما يبخر الحاضرون»، ثم يقدم لنا بعد ملئه، ولا غرو في ذلك، فجزيرة العرب تعد منذ القدم الموطن الأصلي للنباتات ذات الروائح الزكية. نظرا لكوننا لم نتلق دعوات أخرى هذا اليوم كان لدي الوقت للعناية بجسمي، حيث استحممت وحلقت شعر رأسي تماما، كما طلب مني هوبر اليوم أن أرسم له في مذكراته مختلف النقوش التي وجدناها هنا. لقد حاولت كثيرا سواء عن طريق الوعود أو التهديد الحصول على عمود حجري أخرج قبل بضع سنوات من بئر هداج. أو على الأقل نسخ النقش المكتوب عليه، ولكن مالكه المدعو سلامة ابن عائد خرج فجأة الى الصحراء لجلب العلف، فحال ذلك دون حصولي على ذلك النقش. دعانا في المساء مضيفنا عبد العزيز العنقري للعشاء عنده، وقبل أن نذهب لتلبية دعوته نبهنا الخادم محمود الى ان الطعام سيكون حارا جدا، حتى لا نأكل منه كثيرا، وبالفعل كان به الكثير من الفلفل، ولكن لحسن الحظ كان هناك لحم بجانب الأرز، وذلك ما لم أكن أتوقعه، وبعد العشاء مباشرة أخرجت من جيبي عن طريق الصدفة حلقة مطاطية، وعلى الفور سألوني عما اذا كانت مصنوعة من جلد الخنزير». طائر النورس يجلب الأمان * ومن تيماء الى تبوك وبالعكس يسرد الرحالة يومياته ومشاهداته والقلاع والشجيرات والنباتات التي تنمو في صحراء المنطقة، واعطى وصفاً لمدن الحجر والعلا وما تضمهما من آثار وقلاع، ورسم مخططاً لكل مدينة، كما زار مدائن صالح ونسخ نقوشاً مختلفة ثم توجه الى ميناء الوجه الذي كان تابعاً للسيادة المصرية، ليضم الملك عبد العزيز المدينة الى حكمه عام 1344هـ. وعن وصوله الى الوجه يقول يوليوس أويتنج في يوم السبت الخامس من ابريل 1884: «تم قبل ساعة من شروق الشمس إعداد القافلة للتحرك، وبينما كنا نشرب الشاي على وجه من السرعة شاهدت هناك طيور النورس، ما جعل سعادتي تفوق الوصف، فهذه الطيور الحبيبة تحمل معها بشائر السعد، فلها مني الشكر الجزيل على جلبها تحية البحر لي، لم نحط الرحال لتناول طعام الإفطار إلا بعد ان قطعنا مسافة طويلة، والآن انتهى الاكتفاء فقط بالوجبة المعهودة «خبز، تمر، شاي»، إذ يجب علي وبكل ثقة إخراج ما لذ وطاب مما ادخرته ليوم الضيق، الآن الى التمتع بشرب الشوكولادة وأكل البسكويت. وصلنا حوالي الظهر الى شعيب ضيق يسمى الذريب تزودنا من منابعه بالماء وأسقينا منه الجمال، ثم انصرفنا على عجل، وحينما خرجنا من ذلك الشعيب لاحت أمامنا قلعة الوجه الواقعة على درب الحج المصري، وما هو إلا وقت قصير حتى وصلنا اليها، وبعد ساعتين كانتا تمران ثقيلتين كدهر كامل وصلنا الى ميناء الوجه التابع للسيادة المصرية، يا له من شعور، لقد رأيت البحر مرة أخرى، حقاً ان نعمة الماء التي وهبها الله لنا لا يقدرها سوى من عايش القحط والعطش في الصحراء ومن لم ير طوال أشهر عديدة نهرا أو واديا أو عينا جارية. حقاً ان المشاعر لتغمرها السعادة والبهجة. لقد أدى اقترابنا من ميناء الوجه الى انتفاخ صدري المتصحر، فهنا أشاهد أمامي البحر، وبعض الأعمدة وشخصاً راكباً حصانه، ورأيت أيضاً الطربوش والمعطف المصري والثياب النظيفة: يا الهي ما هذه المفارقات؟! وفي هذه اللحظة أصبحت النقوش في مأمن، ولم يعد هناك من الناس من أخشاه، حقاً إن سعادتي لا توصف.
المصدر : الشرق الأوسط
مسلّة تيماء تثير صراعاً فرنسياً ألمانياً منذ 135 عاماً