موضوع: " الحـصان. " قصة قصيرة. الجمعة أبريل 09, 2010 4:58 am
" الحـصان. " قصة قصيرة.
كان يسير هادئ البال، متبلد الحس ربما من عدم تمكنه من التدخين طيلة العشرة أيام السابقة والتي قضاها بغرفة العناية المركزة بأحد المستشفيات. قال له الطبيب في تحد واضح وهو يغادر المستشفي "قلبك ضعيف، وإذا لم تترك التدخين ستموت. عليك بالمشي لكن لا تسرع، لم تعد شاباً." وجد نفسه يقترب من كشك سجائر وراح ينظر لعلب للسجائر وللبائع الكهل بود واحترام. سأله البائع مبتسماً عما يريد. وجد نفسه يردد للبائع عن رغبته في تدخين سيجارة رغم قلبه الضعيف وتحذير الطبيب له." لهذا السبب قررت عدم شراء علبة كاملة". ضحك البائع وناوله سيجارتان قائلاً له وهو يقبض النقود " أدخن منذ خمسون عاماً ولم يحدث شئ، دعك من كلامهم فهم مجموعة من الحمقى لكن حاول السيطرة علي نفسك، لاتدخن إلا وقت الحاجة إليها تلك العاهرة". واصل مشيه بمحاذاة النيل، الحر في أغسطس لا يطاق حتى قبيل الغروب بقليل. كان باستطاعته رؤية بخار الماء المتصاعد من الأرض الساخنة بعد أن رشها أصحاب المقاهي الصغيرة المنتشرة بطول الشارع الهائج والمزدحم كالعادة، الناس يتدافعون فوق الأرصفة وبين السيارات المسرعة، أصوات الأقدام تختلط بذرات التراب الناعمة والمتطايرة وببخار الماء المتصاعد من أسفلت الشارع الساخن. قال لنفسه "لعله الجحيم نفسه. فلن يكون الجحيم أسوأ حالاً من كل ذلك." صوت مفزع لسيارة نقل ضخمة، كان السائق يحاول دون جدوى أن يوقفها قبل أن يصدم شاباً كان يقفز - قبل قليل - بين السيارات محاولاً بيع أشياء رخيصة لراكبيها. "لا فائدة، لقد قتله، يا للمسكين". أمسك الناس بالسائق الذي راح ينظر بذعر لجثة الشاب وهو يصرخ فيهم "ساعدوني، يمكن نقدر ننقذه، يمكن لسه فيه الروح". لم يعبأ أحد بصراخه وراحوا يدفعونه محكمين قبضتهم عليه. " ننقذ مين ياعم دا انت طحنته."" الفرامل سابت يارجاله ، حاولت والله." راح لون الأسفلت الأسود الساخن يتلون بلون الدم الأحمر الدافئ حتى أنه رأي أيضا بخار الماء يتصاعد منه. ظل دم المسكين ينساب فوق الأرض بهدوء إلي أن توقف. تساءل بفزع: " ألا يمكن لأحد أن يوقف هذا النزيف؟." القي أحدهم بجريدة فوق الجثة الممددة. تجمع المشاة، هرول البعض بعيداً من الخوف والفزع. كان هناك شاب يحاول سحب صديقته بعيداً غير أنها أصرت علي الوقوف ورؤية ما يحدث. أحضر ثلاثة أو أربعة من الصبية العاملين بالمقاهي القريبة دلو ماء كبير وبعض المكانس وأخذوا يسكبون الماء فوق الدم المنساب ثم يسحبون الماء المختلط بالدم بعيداً. قال أحد الواقفين بهدوء وثقة " يصعب تنظيف الأسفلت إذا جفت فوقه كل تلك الدماء". فضل الابتعاد فقد نصحه الطبيب أيضاً بالبعد عن الانفعالات القوية، كان دوماً يجيبه " حسناً قل لي أين هو ذلك الزر السحري لأضغط عليه لأبعد عن الانفعالات والتوتر؟". تابع مشيه، الكل يمشي من حوله راضين سعداء وكأنه لاتوجد جثة رجل ممدة علي بعد خطوات منهم. حدث نفسه بأسي " تلك أحد المساوئ الروحية للعصر."!!
شعر بالانقباض كما لو أن شيئاً آخر سيحدث. عدل عن قراره بعبور الشارع وراح يتابع سيره ببطء فوق الرصيف. صرخ أحدهم فيه " إنتبه ياهذا ". قفز خائفاً بعيداً، كاد حصان هائج يجري بلا هدف أن يدهسه. تبدو علي الحصان علامات الأصالة رغم ذعره الشديد، كان يركض وسط السيارات وفوق الأرصفة دون أن يصطدم بأي شئ." كيف يمكن لهذا الحصان المذعور أن يتحكم بنفسه لهذا الحد الرائع؟" أسرع في مشيته ليري الحصان الهارب بوضوح، ثم سرعان ما راح يركض هو الآخر خلفه. ود لو أستطاع ذلك البائس الإفلات. حدث نفسه "علينا أن نجري بكل مافي قلوبنا من قوة ". ألقي بالسيجارة وراح يسرع في جريه وهو يحدث الحصان. " معك الحق أن تهرب من أولئك اللئام، انتبه إنهم قادمون". كان العديد من الرجال يتابعون مطاردته بواسطة سيارة قديمة. تطوع صاحب سيارة أخري لمعاونتهم. ازداد ركض الحصان وراح جسمه ينتفض من الغضب كلما أحس بقربهم منه. غمر جسده العرق. أحس وهو يجري خلف الحصان بأنه يطرح خلفه كل الهموم والأحزان والخوف والحقد. التصق شعر الحصان المبلل بالعرق بالجلد، وجد المسكين نفسه محاصراً بين السيارتين. "سننجو رغم الحصار"، صرخ في الحصان الذي لم يستسلم. "قفزة رائعة، ألم أقل أنه حصان أصيل". حاصرته ثانية السيارتان. بدا له أن الرجل الذي تطوع بسيارته للمساعدة أشد لهفة في الإمساك بالحصان. صرخ في وجهه "يالك من وغد، اتق الله". لم يعره الرجل انتباهاً وتحاشي قفزة الحصان الثانية، وحرك سيارته بمهارة حتى وقف قبالته.
حاول ياصديقي، أرجوك لا تستسلم لهم. ارتسم الجد والعناد فوق وجوه الرجال. ضاقت الحلقة أكثر بمجئ السيارة الأخرى، صوت احتكاك الجسد الفائر بجدار السيارة الصدئ. كان عليه أن يقف مرة واحدة وإلا حطمته سيارة الوغد. لا جدوي ترنح المسكين وسقط فوق الأرض، ياللتعاسة. ارتعش الجسد، ارتعاشات سريعة، ورائحة نفاذة لعرق الحصان وجهده الخارق، اقترب منه، ود لو ربت بيده فوق رأسه. تجمع المارة لمشاهدة الحصان الممدد فوق الأرض. أحس بالحزن والقلق. اقترب الرجال من الحصان بحذر وإصرار، كان أحدهم ممسكاً بعصا غليظة بينما كان الرجل الوغد يقف بعيداً يدخن سيجارة بشراهة وهو يحكي لمجموعة من الصبية متباهياً بذكر دوره البطولي والخارق في المطاردة. حاول الآخر ضرب الحصان بعصاه. وجد نفسه يقف أمامه زاجراً إياه بصوت عال" سأقتلك لو حاولت إيذاء ذلك المسكين". فوجئ الرجل بجدية التهديد فاَثر الانسحاب وهو يدمدم "حيوان قذر".
اقترب صاحب الحصان ممسكاً بقبضته حزمة من البرسيم الأخضر الطري، كان كهلاً يبدو عليه الحزن وعلامات المرض. افترش الأرض بجوار حصانه ولم يسمح لأحد أن يقترب منهما. قال بصوت واهن: "خلاص يا رجاله، متشكرين لتعبكم، نخدمكم في الأفراح أتركونا من فضلكم لوحدنا شويه". وجد نفسه يقترب من الكهل ويجلس بجواره فوق الأرض، لم يمانع الكهل في بقائه ونظر إليه مبتسماً حين تذكر أنه الوحيد الذي منع إيذاء حصانه .قال له بصوت حزين: "عيد أصله زعلان شويه". ثم راح يتحدث مع حصانه وهو يقدم له البرسيم الطري وكأنه يحدث ابنه الصغير العاق. "أنا عارفك زعلان ياعيد، غصب عني والله، أنا كنت لوحدي، وراك وعلي رجلي، أنا ماعرفش إيه اللي لم الرجاله دي كلها. الرجاله إتلموا حواليه، وراجل جاب راجل، وعربيه جابت عربيه. دول يابني مايتجمعوش إلا في ساعة النكد. كنت خايف عليك من العربيات ومتأكد إنك هاترمح شويه وترجع، ماهو الجري في دمك. كنت ناوي تروح فين وتسيبني؟ مانت عارف العيال راحوا لحالهم وملناش غير بعض دلوقتي. يرضيك تسيبني لوحدي؟! وانا اللي باعاملك زي إبني عيد، مانتم جيتم الدنيا في يوم واحد، وسميتكم نفس الأسم. هو عيد وانت عيد، عشر سنين وهو بيرمح هو التاني، ماعرفش أخباره إيه، وانت التاني عاوز تهرب وترمح بعيد. قوم ياعيد ، قوم يابني، حقك عليه". ] راح الحصان يأكل ببطء من يد الرجل، قضمة واحدة راح يلوكها بفمه وكأنه يأكل لمجرد جبر خاطر صاحبه الحزين، بدأت عضلاته المنهكة تلين وتبرد ثم راح يرفع رأسه لينظر لصاحبه ثم يديرها قليلاً ليثبت نظراته علي البعد، تجاه شئ غير مرئي إلا في مخيلته. لعله يري هناك حلمه القديم الذي حاول الوصول إليه ولم يفلح . كان الكهل صامتاً وراح يردد ثانية بهدوء وحزن "قوم ياعيد ، حقك عليه يابني". انتفض الحصان عدة مرات ثم نهض بتثاقل ورأسه مدلاة للأسفل وراح يمشي ببطء خلف صاحبه الكهل الممسك بحزمة البرسيم الخضراء. راحت الأصوات تتعالى ثانية، ألقيت بعض النكات، تعالت الضحكات، بينما كان صوت الرجل الوغد يأتي عالياً "لا أحب العناد، حيوان تنقصه التربية". وجد نفسه يقترب من صاحب الحصان ليسأله، أجابه بكلمات قليلة لكنها كانت كافية أن يفهم ما لم يستطع فهمه طيلة الوقت. مشي خلفهم، أشعل السيجارة الثانية وراح ينفثها بتلذذ. حدث نفسه بأنه قد يكون من الأحسن أن يذهب للنوم مبكراً فربما يصادفه حلم جميل يعيش فيه ولو للحظات قليلة من عمره ..
Admin Admin
عدد المساهمات : 2029 نقاط : 4938 تاريخ التسجيل : 17/04/2009
موضوع: رد: " الحـصان. " قصة قصيرة. الجمعة أبريل 09, 2010 5:09 am
الله اخ مرح ما أروعك
قصة رائعة من أول كلمة حتى آخرها
تعبر تعبيراً رائعاً عن نقاء روحك وصفاء نفسك وإنسانيتك المترفة بالجمال لا أدري لماذا أحسست أني من كان بالشارع ورأى المشهد كله وقد شعرت بإحساس الحصان حقيقة.. يالشفافيتك ما أروعها يسعد أوقاتك بكل الخير