تعد نظرية الانفجار الكبير أكثر النظريات
قبولاً وأكثرها عدداً من المؤيدين، وفي الوقت الحالي أكد معظم العلماء أن
هذه النظرية هي النظرية الوحيدة التي وافقت حتى الآن جميع الملاحظات
والمشاهدات الكونية وقليلة هي المشاكل التي يواجهها العلماء في فهم الكون
في إطار هذه النظرية.
بعد اكتشاف سليفر لظاهرة الانزياح نحو الأحمر(3)
وتدعيمها من قبل هابل بالصيغة الرياضية والتفسير العلمي الكامل لها، بات
العلماء متأكدين أن الكون يتوسع من حولنا، فعادت فكرة بطليموس القديمة حول
أن الأرض مركز الكون، لكن خرجت للعلماء فكرة تستطيع أن تشمل كل الملاحظات
وتتنبأ بالعديد من الظواهر، حيث أشارت الحركة التباعدية للمجرات بأنه في
زمن مبكر من عمر الكون كانت المجرات قريبة لبعضها بشكل كبير جداً،
وباستمرار حركتنا التخيلية إلى الخلف تظل المجرات تقترب من بعضها حتى تتجمع
كلها في كتلة واحدة كثيفة جداً ذات ضغط هائل ودرجات حرارة هائلة تصل إلى
عدة مليارات الدرجات المئوية،وكمية من الإشعاعات تفوق ما يمكن وصفه
بالأرقام.
والسؤال المطروح هنا; متى حدث هذا الانفجار الكبير؟؟؟
يمكن
معرفة هذا ببساطة من خلال ظاهرة دوبلر في الانحراف الموجي الذي ينص
قانونها بما يتعلق بالضوء:
Δλ⁄λ=v/c
v: سرعة الجسم
المتحرك أو سرعة الراصد أو سرعتهما النسبية في حال أ، كلاهما متحرك(والسرعة
النسبية هي حاصل جمع السرعتين إذا كان الجسمان يتحركان باتجاهين متعاكسين
وحاصل طرهما إذا كانا في نفس الجهة ومحصلة شعاعيهما إذا كان بين حاملي
شعاعيهما زاويةθ ).
c : سرعة الضوء وتساوي 3*10^8 m/s
∆λ : التغير
أو الانحراف في طول الموجة الصادرة عن المتحرك.
λ : طول الموجة الأصلية
الصادرة من الجسم.
وبمعرفة سرعة ابتعاد مجرتين عن بعضهما نستطيع
قياس المسافة بينهما والرجوع بالزمن إلى الخلف إلى اللحظة التي كانت بها
المجرتان مندمجتان مع بعضهما البعض.
في النموذج الإقليدي للكون
Euclidean model الذي يكون فيه الكون مسطحاً، يكون عمره متناسباً عكسياً مع
3/2 من ثابت هابل:"T=2/3H"، ووفق هذا النموذج يكون عمر الكون حوالي 11
مليار عام، وهذا يتوافق مع المشاهدات الأخرى ولكن يعارض بعض المشاهدات لبعض
العناقيد المجرية التي قدر العلماء عمرها بحوالي 12-15 مليار عام..وهنا
ارتأى العلماء أنه يجب إعادة النظر.
وبعد كل هذا البحث المضني ظهرت إلى
الوجود هذه النظرية العظيمة على يد الأب لاميتر Lamaitre ووهو فلكي بلجيكي
والفيزيائي جورج كامو George Gamowالروسي المولد والأمريكي الموطن في عام
1936م.
وكانت الصياغة العامة لهذه النظرية:
"الكون في بداية وجوده
كان يحتوي على تركيز كثيف وساخن من المادة، وأسموا تلك المادة البدائية
بالبداءة Ylem وهو نفس الاسم الذي أطلقه أرسطو طاليس على المادة الأساسية
لتي اشتقت منها كل المواد والتي كان الفلاسفة الإغريق يعتقدون بوجودها، ومن
المحتمل أن تكون جميع الجسيمات في الكون كانت مضغوطة معاً في جو من
الكثافة اللانهائية والحرارة لعالية جداً، ونشبهها بحد كبير بمادة نواة
الذرة التي نعرفها اليوم.
وعند حدوث الانفجار بدأت هذه المادة بالتطاير
في كل مكان وأخذ الكون بالتوسع الهائل،ولن نستطيع دراسة الكون في اللحظة
صفر لأن جميع قوانينا تصبح غير ذات جدوى ضمن تلك الظروف، ويعتقد الكثير من
العلماء (وعلى رأسهم ستيفن هوكنغ) أن حرارة الكون كانت لانهائية في لحظة
الصفر ومضغوط في حيز ضئيل جداً 10^-30 m، ولكن قوانين الفيزياء تصبح صالحة
عند زمن قدره 10^-43 sكانت درجة الحرارة عنده حوالي ℃10^32 والكثافة تصل
إلى حوالي 10^89 مرة كثافة معدن الحديد.
ويعتقد العلماء بناء على
التجارب التي قاموا بها في مسرعات الجزيئات ضمن ظروف عالية من الضغط
والحرارة أنه في تلك الفترة ظهر للوجود أزاوج من الجسيمات Matter وأضداها
Antimatter بدون أية متاعب (وهذا المزيج هو ما يعتقد العلماء أن الفراغ
مكون منه لأن محصلة أي زوج تساوي الصفر)، وبعدها بدأت قوى التجاذب الثقالي
بالتأثير وهي أول القوى ظهوراً للوجود، حيث بدأت تجذب الكواركات لتشكيل
جسيمات مادية أثقل مثل البروتونات والنترونات والبروتونات المضادة
والنترونات المضادة، ولم يترك أي كوارك حراً، وبعد هذا بدأت القوة الثقالية
بتغيير بعض خواصها ونشأت عنها القوى الكهربائية والمغناطيسية (وهذه الفكرة
هي ما حدت بآينشتاين إلى اختراع نظرية المجال الموحد Unified field theory
التي تقول أنه يمكن دمج جميع القوى في نظرية واحدة –نظرية كل شيء-
باعتبارها من أصل واحد) ووصلت القوى نهاية إلى الشكل الذي نعرفه الآن.,
وبعد حوالي 0.01 ثانية من الانفجار الكبير، كان الكون آخذاً بالتبرد إلى
حوالي 100 ألف درجة مئوية، وفي تلك الفترة يعتقد العلماء أن مضاد البروتون
اختفى من الوجود ووقعت تصادمات بين الانترونات والنترونات المضادة مما أدى
إلى إبادة مشتركة لهما، ثم عادت للظهور أزواج جديدة تلقائياً، واختفت بعدها
جميع الجسيمات ضد المادة المتبقية، ما عدا البوزيترونات (ضد الإلكترون وهو
إلكترون موجب e+ )، وبقاء الجسيمات الأصلية واختفاء أضدادها يعد من أهم
الألغاز وهو أحد الأفكار التي تؤيد وجود أكوان أخرى موازية لكوننا يحدث
بينها تبادل طاقي في مستويات معينة. وبما أن النترون جسيم غير مستقر ويقدر
زمن حياته الوسطي بحوالي 15 دقيقة، فقد بدأت بعض النترونات بالتفكك إلى
إلكترونات وبروتونات. وبعد مضي حوالي ثانيتين من عمر الكون حدث له تبرد إلى
درجة حرارة لا يمكن فيها ظهور أزواج من البروتونات والإلكترونات بشكل
تلقائي إلى الوجود، وكان الإشعاع في تلك اللحظة يسيطر على كامل الكون بعد
عمليات الإبادة التي حدثت، كما كان يوجد حوالي مليار فوتون كهرطيسي لكل
بروتون ونترون وإلكترون، وفي تلك الدقائق الأولى بدأت نوى الذرات الأولى
بالظهور، حيث حدث اندماج بين البرتونات والنترونات لتشكل نوى الذرات ووقتها
ظهرت القوى النووية القوية والضعيفة إلى الوجود، وبدأ عملية ضخمة لتشكيل
بلايين الأطنان من غاز الهليوم وتم ذلك عبر مراحل:
A.البروتون وحده يشكل
نواة ذرة الهيدروجين حيث أنها الذرة الوحيدة التي لا تحوي أية نترونات،
وعند اتحاد بروتون مع نترون تتشكل نواة الهيدروجين الثقيل (الديتيريوم).
B.بعد
ذلك يضاف لهما بروتون ونترون آخرين بترتيب معاكس فيتم الحصول على نواة
الهيليوم ذات بروتونين ونترونين، وهو أول العناصر الخاملة التي ظهرت.
وهناك
كمية من الديتيريوم (وهو عنصر ضعيف النواة) عادت لتشكل الهيدروجين وكمية
منه تحولت إلى هيليوم، وفي نهاية هذه العملية تحول أكثر من 30% من مادة
الكون إلى غاز هيليوم صرف.
ومع استمرار تبرد الكون، وصل إلى درجة حرارة
تقارب 3000 درجة مئوية وهي أبرد من سطح الشمس، وعندها تمكنت الالكترونات من
الاتحاد مع أنوية العناصر لتشكل الذرات، وانخفضت نسبة الإشعاع نسبياً
وتركيزه بسبب التوسع المستمر للكون، وبعد مرور عدة ملايين من السنين بدأت
السحب الغازية تندمج مع بعضها لتكون المجرات الأولية (Protogalaxies) وبدأ
الغاز ضمن هذه المجرات بتشكيل النجوم الأولى.
وبما أن نظرية الانفجار
العظيم هي من أهم النظريات التي تعطي نموذجاً كاملاً للكون سوف أحاول أن
أبين معظم التأييدات التي وقفت بجانب فرضيات هذه النظرية، والانتقادات التي
وجهت لها وكيف تمكن العلماء من تخطيها:
1.شعاع الخلفية الميكروية
الكونية “Cosmic Background Microwave Radiation” :
من أهم الأفكار
المؤيدة لنظرية الانفجار الكبير (والتي لم تستطع أية نظرية أخرى تفسيرها)
هي شعاع الخلفية الكونية والذي يعد رسالة من الانفجار العظيم والأثر الوحيد
الباقي له في الكون. أول من أشار إلى حتمية وجود هذا الإلإشعاع هو العالم
جورج كامو عام 1948م ولكن لم يلق اقتراحه أي ردود وقتها، ولكن المسؤول
الأساسي عن إحضار فكرته إلى طاولة علماء الفيزياء هو الفيزيائي الأمريكي
روبرت ديك Robert Dicke واعتبر ديك أنه في حال عدم وجود هذا الإشعاع ستكون
الرصاصة الرحيمة التي سوف تقتل نظرية الانفجار الكبير وسوف ينتقل العلماء
وقتها إلى نظرية أخرى، وقد أمضى ديك حياته كاملة محاولاً العثور على بقايا
هذا الإشعاع، ولكن لم يحالفه الحظ باكتشافه بنفسه.
في عام 1930م كلفت
شركة Bell للاتصالات أحد مهندسيها وهو المهندس الألماني كارل جانسكي Karl
Jansky بحل مشكلة ضجيج كان يعوق الاتصال الراديوي بين أوروبا وأمريكا،
واستطاع باستخدامه بعض المستقبلات الراديوية للأمواج القصيرة نسبياً أن
يسمع هذا الضجيج الذي كان يظهر بصوت هسيس خافت، ولكن لم يستطع جانسكي وقتها
إصلاح هذه المشكلة ولم يعلم مصدر هذا التشويش، فقام بنشر مقال عن هذا
التشويش دون إبداء أية ملاحظات أو توقعات عن مصدره، مما أثار فضول هاوٍ
ألماني اسمه غروث روبير Grothe Rober وجعلته يتحمس لكي يستقبل هذه الإشارات
في مرصده الشخصي الذي زوده بأول تلسكوب راديوي في العالم. وفي عام 1942م
خلال الحرب العالمية الثانية، كانت المخابرات الجوية البريطانية تعاني من
إشارات تعيق محاولاتهم في تحديد مواقع القاذفات الألمانية، لذا تم اللجوء
إلى تكليف بعض العاملين في الاتصالات الراديوية بوضع أجهزة حساسة للبث
والاستقبال، والمفاجأة لهم أن تلك الإشارات والتشويش لم يكن مصدره ألمانيا
بل كان آتياً من كل مكان، وعزوه وقتها إلى الشمس التي كانت تمر بمرحلة نشطة
في إشعاعاتها الراديوية آنذاك.
ولقد جرت عدة محاولات خلال الحرب
العالمية الثانية والفترة التي تلتها لمعرفة مصدر التشويش، حيث تم إنشاء
هوائي ضخم في ولاية نيوجيرسي الأمريكية في أوائل الستينيات –وكان أطول
هوائي في العالم آنذاك-لاستخدامه في تتبع الأقمار الصناعية التي بدأ
إطلاقها في تلك الآونة. وكان هذا الهوائي شديد الحساسية حيث كان بإمكانه
التقاط أمواج طولها لا يزيد عن بضعة سنتيمترات فقط، مما جعل الفلكيان أرنو
بنزياس Arno Penzias وروبرت ويلسون Robert Wilson يعملان على استعارته عام
1965م للبحث عن حلول لمشكلة شركة بيل للاتصالات التي كانت مازالت تعاني
منها، وبعد تصفيتهم لجميع الأطوال الموجية الراديوية استطاعوا حصر صوت
التشويش وحده، وكانت المفاجأة الكبيرة هي التجانس الكبير لهذا الصوت القادم
من المجهول، حيث كان يأتي بنفس الشدة والتواتر في مختلف ساعات النهار ومن
أي مكان تم توجيه الهوائي إليه، ولم يستطع ويلسون وبنزياس تقديم التفسير
لهذه الظاهرة لكن صديقهم الفلكي الأمريكي برنارد بيرك Bernard Burke أخبرهم
عن أعمال روبرت ديك في هذا المجال وأدركوا أنهم عثروا على ما كان يبحث
عنه، وبعد إجراء ديك لبعض الحسابات تأكد أنه ينظر إلى صورة الانفجار الكبير
الوحيدة الباقية في الكون ويسمعها. وتبين بالحسابات أن درجة حرارة هذا
الإشعاع ( أي درجة حرارة الكون الآن) وصلت إلى حوالي 2.7 K تكافئ حوالي℃
270- .
وقد توضح للعلماء أنه لا سبيل آخر لتفسير هذا الإشعاع إلا بناء
على نموذج الانفجار الكبير، حيث أن كل محاولات الناقدين لهذا النموذج
لعزوها لبعض المجرات واأجرام السماوية باءت للفشل بسبب التجانس الكبير الذي
لا يوجد مصدر واحد له.